فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والرؤية عرفانية، وقيل: بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء.
وهي على التقديرين تستدعي مفعولًا واحدًا.
و{كَمْ} استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها، وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية، وهي عبارة عن الأشخاص، وقيل: إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما.
و{مّن قَرْنٍ} مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت.
واختلف في مقدار تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاثون، وقيل: عشرون، وقيل: مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان.
ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى.
ويحتمل أن يعتبر ذلك مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.
وقيل: هو عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم.
واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله.
والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز.
وجوز بعضهم انتصاب {كَمْ} على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف.
و{من} الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا.
وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية.
والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزئون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وقوله تعالى: {مكناهم في الأرض} استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم؟، وقال أبو البقاء: إنه في موضع جر صفة {قَرْنٍ} لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص.
وجمع الضمير باعتبار معناه.
وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة، على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع (أمرًا) مفروغًا عنه غير مقصود لسياق النظم مؤد إلى اختلاف النظم الكريم، كيف لا والمعنى حينئذ: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد. انتهى.
ولا يخفى أن التنوين التفخيمي لا يأبى الوصف.
وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب: إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم {فأهلكناهم} إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئًا.
وتمكين الشيء في الأرض على ما قيل جعله قارًا فيها.
ولما لزم ذلك جعلها مقرًا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} [الأحقاق: 26] وأخرى مكن له في الأرض ومنه قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض} [الكهف: 84] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى: {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} بعدما تقدم كأنه قيل في الأول: مكنا لهم وفي الثاني: ما لم نمكنكم.
وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له.
وقال أبو علي: اللام زائدة مثل {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72].
وكلام الراغب في مفرداته يؤيده.
وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له، ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين و{مَا} إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينًا لم نمكنه.
وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل: إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناهم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم.
وقيل: إنها مصدرية ظرفية أي مدة عدم تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب للكفرة.
وقيل: لجميع الناس.
وقيل: للمؤمنين.
والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى.
وقيل: ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني.
{وَأَرْسَلْنَا السماء} أي المطر كما روي عن هارون التيمي، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا.
وقيل: السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل.
وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له، وفيه من المبالغة ما لا يخفى.
والإرسال والإنزال كما في البحر متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعًا {عَلَيْهِم مَّدْرَارًا} أي غزيرًا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من السماء والظرف متعلق بأرسلنا {وَجَعَلْنَا الأنهار} أي صيرناها {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} أي من تحت مساكنهم.
والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار.
والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا.
ولم يقل سبحانه: أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه: {أَرْسَلْنَا السماء} للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريًا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونها من تحتهم فالفائدة ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحًا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [المائدة: 119] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب، وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول.
وليس المراد على ما قيل بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئًا.
وينبئ عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين.
قوله تعالى: {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} والفاء للتعقيب وقيل: فصيحة والمراد فكفروا فأهلكناهم ورجح الأول، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام {وَأَنشَأْنَا} أي أوجدنا {مّن بَعْدِهِمْ} أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك {قَرْنًا ءاخَرِينَ} بدلًا من الهالكين.
وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنًا ويخلي بلاده منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشيء مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 51] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين وكونهم من بعدهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ}.
الجملة بيان لجملة: {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}.
جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقابًا لهم على التكذيب.
والرؤية يجوز أن تكون قلبية، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير: ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحِجْر ثمود، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم.
وعلى كلا الوجهين ففعل {يَرَوا} معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول، باسم الاستفهام وهو {كم}.
و{كم} اسم للسؤال عن عدد مبهم فلابد بعده من تفسير، وهو تمييزه.
كما تقدّم في قوله تعالى: {سَل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية} في سورة البقرة (211) وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولابد من مفسّر هو تمييز للإبهام.
فأمّا الاستهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير، ولمّا كان (كم) اسمًا في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفعٌ ونصب وجرّ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين ليرَوا.
و(مَنْ) فزائدة جارّة لمميّز {كم} الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه بـ (من)، كما بيّناه عند قوله تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة} في سورة البقرة.
والقرن أصله الزمن الطويل، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلًا.
قال تعالى: {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}.
وفسّر القرن بالأمّة البائدة.
ويطلق القرن على الجيل من الأمّة، ومنه حديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر، وقيل: غير ذلك.
وجملة: {مكّمّاهم} صفة ل {قرن} وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع.
ومعنى: {مكّنّاهم في الأرض} ثبّتناهم وملّكناهم، وأصله مشتقّ من المكان.
فمعنى مكّنه ومكّن له، وضع له مكانًا.
قال تعالى: {أو لم نمكّن لهم حرمًا آمنًا}.
ومثله قولهم: أرَضَ له.
ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر.
ويقال: هو مكين بمعنى مُمَكّن، فعيل بمعنى مفعول.
قال تعالى: {إنّك اليوم لدينا مكين أمين} فهو كناية أيضًا بمرتبة ثانية، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي.
والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأساباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: {إمّا مكنّا له في الأرض}، وقال: {الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة} الآية.
فمعنى مكَّنه: جعله متمكّنًا ومعنى مكّن له: جعله متمكّنًا لأجله، أي رعيا له، مثل حمده وحمد له، فلم تزده اللام ومجروورها إلاّ إشارة إلى أنّ الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصيّر مكّنه ومكّن له بمعنى واحد، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي.
ودليل ذلك قوله تعالى هنا: {مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم} فإنّ المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعيّن أن يكون معنى الفعلين مستويًا، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين، إذ التفاوت لا يظهر إلاّ في شيء واحد، ولأنّ كون القرون الماضية أقوى تمكّنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين، وقد عكس هنا.
وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكّنه ومكّن له، وقول الزمخشري بأن: مكّن له بمعنى جعل له مكانًا، ومكّنه بمعنى أثبته.
وكلام الراغب أمكن عربية.
وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة.
واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنّه يستلزم التقوية.
وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة.
و{ما} موصولة معناها التمكين، فهي نائبة عن مصدر محذوف، أي تمكينًا لم نمكنّه لكم، فتنتصب (ما) على المفعولية المطلقة المبيّنة للنوع.
والمقصود مكّناهم تمكينًا لم نمكَّنه لكم، أي هو أشدّ من تمكينكم في الأرض.
والخطاب في قوله: {لكم} التفات موجّه إلى الذين كفروا لأنّهم الممكّنون في الأرض وقت نزول الآية، وليس للمسلمين يومئذٍ تمكين.
والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجريْن بهم}.
والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعًا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة.
وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى: {وعمروها أكثر ممّا عمروها} أي عمَرَ الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر.
والسماء من أسماء المطر، كما في حديث الموطأ من قول زيد بن خالد: صلىّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء، أي عقب مطر.
وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله: {أرسلنا} بخلافه في نحو قوله: {وأنزلنا من السماء ماء}.
والمدرار صيغة مبالغة، مثل منحار لكثير النحر للأضياف، ومذكار لمن يولد له الذكور، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن، ولذلك سمّي اللبن الدّر.
ووصفُ المطر بالمدرار مجاز عقلي، وإنّما المدرار سحابه.
وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث.
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله.